- شرح الأصول الثّلاثة (4) تفسير سورة العصر وأدلّة المسائل الأربع

أرسل إلى صديق

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (04) تفسير سورة العصر وأدّلة المسائل الأربع

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

  • · قوله رحمه الله: ( والدّليلُ ): أي: على هذه المسائل الأربع ( قولُه تعالى: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ): وإنّما ذكر البسملة استحبابا؛ لأنّه ذكر السّورة كاملةً؛ روى البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه قال: 

بَيْنَا رَسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رسولَ اللهِ ؟ قال: (( أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ )) فَقَرَأَ: بسمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}.

بخلاف ما لو استدلّ بآية أو جزء من آية، فليس من السنّة ذكر البسملة. وكذلك الاستعاذة، لم يكُن من هدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الإتيان بها إلاّ في مقام التّلاوة.

وأبعَد عن السنّة من يأتي بالاستعاذة قائلا: قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم ! فهذا زيادةً على أنّه مخالف للسنّة، فإنّ فيه نسبة التعوّذ إلى الله من الشّيطان !

وقد بيّن عدم مشروعيّة ذلك بما لا مزيد عليه الإمام السّيوطي رحمه الله في " القذاذة في تحقيق محلّ الاستعاذة "، وهي ضمن كتاب "الحاوي للفتاوي".

  • · ( وَالْعَصْرِ ) فبدأ الله السّورة بالقسم لتوكيد مضمون كلامه سبحانه. وأقسم بالعصرِ، وهو ظرف ووعاء لكلّ الأقوال والأفعال والأحوال الّتي تصدر من جميع الخلق، وهو زمن تحصيل الأرباح، اغتنمه من اغتنم، وغُبن فيه من غُبن.

وتفسير العصر بالزّمن هو قول جمهور المفسّرين، خلافا لمن فسّره بأنّه الوقت قبل المغرب. 

  • · ( إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ): أي: جنس الإنسان، فالإنسان من حيث هو إنسان خاسرٌ، إلاّ من رحم الله فهداه ووفّقه. 

والخُسر ضدّ الفلاح والنّجاة. ونلحظ هنا أمرين اثنين: 

1- أنّه تعالى أقسم بزمان أفعال الإنسان ومحلّها على عاقبة تلك الأفعال وجزائها، فالمقسم عليه مناسب تماما للمُقسَم به، وهذا كثير في القرآن. 

2- وأنّه تبارك وتعالى أكّد هذا الحكم بمؤكّدات أربع: 

أ) بالقسم، ولله سبحانه حقّ القسم بما شاء تنويهاً بتعظيمه. ب) حرف التّوكيد إنّ. ج) اللاّم. د) قوله:{لَفِي خُسْرٍ} ولم يقل: خاسر. 

  • · ( إِلاَّ ) فاستثنَى من جنس الإنسان صنفاً من النّاس، فقال: 
  • · ( الَّذِينَ آمَنُوا ): وهذا دليل على المسألة الأولى؛ إذ يلزم من الإيمان العلم، فلا يمكن أن يحصّل المرء الإيمانَ الجازم بلا علم. 

وحذف المتعلّق ليدلّ على العموم، فهم يؤمنون بكلّ ما أمر الإيمان به. 

  • · ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ): وهو ما أشار إليه رحمه الله بالمسألة الثّانية: العمل. والعمل الصّالح ما كان خالصا صوابا، وما من عمل وإن دقّ إلاّ نُشِر له ديوانان: لِمَ عملت ؟ وكيف عملت ؟
  • · ( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ): والتوّاصِي بالحقّ هو قدر زائد على مجرّد العمل به، وهو داخل في العمل الصّالح، ولكنّه تعالى خصّه بالذّكر تنبيها على فضله وضرورته.

ونظيره قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، مع أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من الدّعوة إلى الخير. 

ويدخل في الحقّ: الحقّ الواجب، والحقّ المستحبّ.

  • · ( وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ): فإنّ المؤمن ضعيف بنفسه، قويّ يإخوانه. وليست الدّعوة بحاجة إلى شيء حاجَتَها إلى العلم بالحقّ، والصّبر عليه، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أَعْطَى اللَّهُ أَحَدًا مِنْ عَطَاءٍ أَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ )) [رواه أبو داود].
  • · قوله رحمه الله: ( قالَ الشّافعيُّ رحمه الله تعالى: لوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلاَّ هٰذه السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ )

وقوله: ( رحمه الله ) فيه أدب رفيع، وقيام بحقّ أهل العلم، بأن يدعُو الطّالب لهم بالرّحمة. وهي دعاء، وليست خبرا، ومن أخطاء النّاس قولهم عن الميّت: المرحوم، أو المغفور له؛ لأنّ في ذلك جزما له بالرّحمة، وليس ذلك إلاّ الله. 

وكلمة الإمام الشّافعيّ رحمه الله في سورة العصر اشتهرت لدى أهل العلم، وأثنَوا عليها، وإنّما ساقها المصنّف رحمه الله لبيان عظمة هذه السّورة، وقوّة ما استدلّ به على المسائل الأربع.

وقد عرف السّلف لهذه السّورة وزنها، حيث روى الطّبراني في "الأوسط" والبيهقي في "الشّعب" بسند حسن عن أبي مدينة الدّارمي رضي الله عنه قال: كان الرّجلان من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا التقيا لم يفترقا حتّى يقرأ أحدُهما على الآخر:{وَالعَصْرِ إَنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍثمّ يسلّم أحدهما على الآخر" ["الصّحيحة" (2648)].

  • · قوله رحمه الله: ( وقال البخاريّ رحمه الله تعالى: بابٌ العلمُ قبلَ القولِ والعملِ، والدليلُ قولُه تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [محمد:19]. فبدأَ بالعلمِ [قبلَ القولِ والعملِ] ).

وكلمة البخاريّ رحمه الله قد سبقه إليها سفيان بن عيينة رحمه الله، فقد روى أبو نعيم في "الحلية" في ترجمته أنّه تلاها فقال: ألم تسمع أنّه بدأ به فقال:{اِعْلَمْ} ثمّ أمره بالعمل ؟

وكلّ ذلك - كما قال الحافظ رحمه الله - حتّى لا يسبق إلى الذّهن من قولهم:" إنّ العلم لا ينفع إلاّ بالعمل " تهوينُ أمرِ العلم والتّساهل في طلبه.

وقد بيّنّا أنّ قول المصنّف " قبل القول والعمل " ليست في البخاري.

***

قال رحمه الله:

اعلمْ - رحمك الله -: أنَّهُ يجبُ على كلِّ مسلم ومسلمة تَعَلُّمُ هٰذه الثّلاث مسائل والعملُ بهنَّ:

الأولى: أنَّ اللهَ خَلَقنا ورَزَقَنا ولم يتركْنا هملاً؛ بل أرسلَ إلينا رسولاً فمنْ أطاعَهُ دخلَ الجنَّةَ ومنْ عصاهُ دخلَ النّارَ. والدليلُ قولُهُ تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً} [المزمل:15-16].

الثّانية: أنَّ اللهَ لا يرضى أن يُشْرك معهُ أحدٌ في عبادتِه لا مَلَكٌ مُقَرَّب ولا نبيٌّ مُرْسَل، والدّليلُ قولُهُ تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18].

الثّالثة: أنَّ مَنْ أطاعَ الرسولَ ووحَّدَ اللهَ لا يجوزُ لهُ مُوالاةُ مَنْ حادَّ اللهَ ورسولَهُ ولو كان أقْرَبَ قريبٍ. والدّليلُ قوله تَعَالىٰ: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].

الشّرح:

هذا شروع في المقدّمة الثّانية بين يدي الأصول الثّلاثة، وهو وجوب تعلّم مسائل ثلاثٍ.

وافتتحها بما افتتح به المقدّمةَ الأولى، من التّنبيه على أهمّية ما يذكر بقوله ( اعلم )، وبالدّعاء للمتعلّم بقوله: ( رحمك الله ).

  • · قوله رحمه الله: ( على كلّ مسلم ومسلمة )، ليدلّ على أنّ معرفة هذه المسائل واجبٌ وجوبا عينيّا كذلك، وعطف المسلمة على المسلم للتّوكيد، وإلاّ فإنّه لو لم يذكر المسلمة لدخلت فيه، فقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ )) [رواه أبو داود والتّرمذي وأحمد].

ووجه التّوكيد في ذكر المسلمة أمران:

الأوّل: حرص أغلب النّاس على تعليم العقائد الذّكور دون النّساء.

الثاني: أنّ العقيدة الصّحيحة لا بدّ أن تُلقّن للصّغار كما تلقّن الحروف، وليس هناك من هو أقرب إلى الطّفل من والدته، فيمكنها أن تغرس أصول التّوحيد في قلب الصّغير منذ نعومة أظفاره. كما أنّها يمكنها أن تزلزل عقيدته وتخدش إيمانه.وكم من الخرافات والشّركيّات إنّما علِقت في الأذهان من تلقين النّساء لجهلهنّ.

وقد أجمع أهل الاختصاص بعلم التّربية والاجتماع أنّ نسبة 90 % من التّربية تتمّ في السّنوات الخمس الأولى. وهي السّنوات الّتي تتكوّن فيها شخصيّة الولد.

ولمّا أدرك الأعداء أهمّية ترسيخ العقائد في قلوب الصّغار حرصوا أشدّ الحرص على تعليم المرأة لأنّها أوّل وأقرب جليس لهم.

  • · قوله رحمه الله: ( تَعَلُّمُ هٰذه الثّلاث مسائل ): وفي نسخة:" هذه المسائل الثّلاث "، وهي أصحّ. وملخّص هذه المسائل:

الأولى: ربوبيّة الله تعالى، والثّانية: ألوهيّة الله عزّ وجلّ، والثّالثة: الولاء والبراء.

وتتمّة ما جاء في الرّسالة نأتي على شرحه لاحقا إن شاء الله.

:

الذهاب للأعلي